صحيفة الأهرام
وأخيراً فرضت قضية القدس نفسها على مائدة المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية باعتبارها قضية القضايا الخمس التي تحددت منذ أوسلو 1993 وهي قضايا (القدس, اللاجئين, المياه, الحدود, الترتيبات الأمنية), وإذا كانت الحكومات الإسرائيلية قد استطاعت تأجيل طرح القدس على أجندة التفاوض أواخر التسعينيات فإن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قد نجح في استضافة عرفات وباراك في كامب ديفيد ـ2 عام2000 لمحاولة حسم القضية خلال العام السابق لمغادرته البيت الأبيض ولم يوفق كلينتون في محاولته حتى مغادرته البيت الأبيض في 20 يناير2001 وبعدها تولي أرييل شارون رئاسة الوزارة الإسرائيلية وأطاح بقضية القدس طوال ست سنوات عجاف مكثها في رئاسة الوزارة واستكمل خلال حكمه مخطط تهويد القدس وحتى مثوله للغيبوبة منذ بداية عام 2007.
هكذا ظلت قضية القدس مستبعدة سنوات طوالاً من أجندة التفاوض ولم يستطع الرئيس الأمريكي بوش الاقتراب منها وإن كان قد أوردها في سياق مبادرة (خريطة الطريق) عام 2003 والتي سرعان ما تجمدت ولم تستكمل مراحلها بعد.
وعندما اقترب الرئيس بوش من موعد نهاية رئاسته أراد أن يكرر تجربة بيل كلينتون لعله يترك أثراً يحسب له لو نجح في تحقيقه ليعوض الإخفاقات المتعددة لسياساته على مستوى الشرق الأوسط الكبير وغيره من المناطق الأخرى للمعمورة التي أشاع فيها (الفوضى البناءة!)
ومن هنا جاءت مبادرة الرئيس بوش في سبتمبر الماضي للدعوة إلى اجتماع أنا بوليس الدولي ورغم الغموض الذي ظل يهيمن على الدعوة إلى هذا الاجتماع طوال ثلاثة أشهر قبل انعقاده في ديسمبر 2007 فإن الرئيس بوش أدلى بتصريح خطير ـ وللمرة الأولى ـ فيى4 أكتوبر الماضي في سياق خطابه بولاية بنسلفانيا أعطى مؤشراً للهدف الأساسي المتوقع أن يسفر عنه الاجتماع الدولي, حيث أفصح الرئيس بوش للمرة الأولى أن "إسرائيل" قد وافقت على رؤيته للسلام بدولتين مقترحا جعل القدس عاصمة للدولتين مع إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين وأضاف بوش أنه متفائل جداً بفرص إقامة دولة فلسطينية بجوار "إسرائيل" التي أدركت أن قيام هذه الدولة الفلسطينية سيكون في مصلحتها باعتبار أن عدم قيام الدولة الفلسطينية الديمقراطية سيضع "إسرائيل" تحت رحمة التغيرات السكانية في وقت غير بعيد.
وتمضي الأيام بعد انعقاد اجتماع أنابوليس الذي لم يتطرق إلى صلب الرؤية الأمريكية الجديدة للسلام تحديداً, وجاء الدور أخيراً على أولمرت رئيس وزراء "إسرائيل" ليفاجئنا أمس الأول (أول يناير 2008) بتصريحات مؤيدة لرؤية الرئيس بوش, مؤكداً ضرورة أن يقتنع الإسرائيليون بأنه حتى أصدقاء "إسرائيل" المقربون مع الساحة الدولية (ويقصد الولايات المتحدة تحديدا) يرون أن (مستقبل "إسرائيل" يقوم على أساس حدود عام 1967 مع تقسيم القدس. وقال إن العديد من الأحزاب السياسية الإسرائيلية ظل بعيداً عن الحقيقة التي تطلب من "إسرائيل" التوصل إلى حل وسط فيما يتعلق بأجزاء من الأراضي التي احتلت عام 1967 للحفاظ على الهوية اليهودية) وهنا أفصح أولمرت ـ دون حياء ـ بضرورة أن تكون مستوطنة (معاليه أدوميم) جزءاً لا يتجزأ من القدس ومن دولة "إسرائيل" وادعى أن الحديث عن المستوطنات لا يشمل معاليه أدوميم.
* * *
نحن إذن, رغم تحفظاتنا, أمام نقطة تحول في تاريخ المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية ـ إن لم تكن خدعة أو طعماً لتحقيق مآرب أمريكية ـ إسرائيلية عاجلة في المنطقة تتطلب هدوءاً نسبياً في المنطقة لبعض الوقت ثم تعود (ريما) الأمريكية ـ الإسرائيلية إلى عاداتها القديمة بالتنصل من كل اتفاق والمغالاة في إملاء الشروط والتحفظات, ودروس أوسلو لم تنس بعد, خاصة يوم 4 مايو 1999 الذي تحدد رسمياً لقيام الدولة الفلسطينية في وثائق المفاوضات ولم يتحقق على أرض الواقع حتى الآن, حيث يعيش الشعب الفلسطيني معلقاً على وعد مراوغ بتحقيق هذا الأمل عام 2008 على أيدي الرئيس بوش وليس في الأمم المتحدة.
* * *
أيا كان الأمر نعود إلى التحفظ الإسرائيلي على الوعد الأمريكي بإقامة دولتين وتقسيم القدس وقبول حدود 1967, حيث ترى "إسرائيل" أن مستعمرة [معاليه أدوميم] جزء لا يتجزأ عن القدس ومن دولة "إسرائيل". وطالب باستبعادها من قائمة المستوطنات الأخرى عند الحديث عن تقسيم القدس.
وقد يبدو التحفظ الإسرائيلي بشأن مستعمرة معاليه أودميم تحفظا بسيطاً يمكن للجانب الفلسطيني الاستجابة له. بسهولة.. ولكن الحقيقة أن مثل هذا التحفظ يكاد يكون [القشة التي قصمت ظهر البعير] فمستوطنة معاليه أدوميم هي دون غيرها التي سوف تعزل القدس العربية (المصغرة) عن محيطها الفلسطيني العربي ـ الإسلامي, حيث تكون القدس العربية معزولة تماما عن الضفة الغربية بعد استكمال مخطط "إسرائيل" الحالي لمصادرة أراضي المنطقة المعروفة بـ[آي ـ1] الواقعة بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم وبناء أحياء استيطانية يهودية تحقق التواصل الاستيطاني لليهود في المنطقة بينما يمنع هذا مستقبلاً إقامة دولة فلسطينية (قابلة للحياة) ذات تواصل جغرافي خاصة مع استكمال الجدار العنصري العازل. ويتحقق بهذا المخطط مستقبلاً وجود أغلبية سكانية يهودية داخل القدس لأول مرة في تاريخ المدينة المقدسة منذ آلاف السنين بينما تصير الأغلبية المقدسية العربية بعد ذلك مجرد أقليات سكانية معزولة داخل جزء صغير من مدينتها التاريخية بعيدا عن محيطها العربي ـ الإسلامي في الضفة الغربية.
* * *
.. وأخيراً تخطئ الإدارة الأمريكية للرئيس بوش مع حكومة أولمرت لو اعتقدتا أنه من السهل التوقيع على اتفاق سلام مشروط وهش ومنقوص ومبتور وغير عادل, فالسلام العادل لا يزال هو خيارنا الوحيد ولسوف يمضي بوش كما مضى كلينتون ويمضي أولمرت كما مضى باراك.. ويبقى أصحاب الأرض والحق صامدين حتى يأذن الله والله خير الحاكمين.